الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **
*3* الشرح: قوله: (باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم) أي خلقه وخلقه. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ صَلَّى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْعَصْرَ ثُمَّ خَرَجَ يَمْشِي فَرَأَى الْحَسَنَ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ فَحَمَلَهُ عَلَى عَاتِقِهِ وَقَالَ بِأَبِي شَبِيهٌ بِالنَّبِيِّ لَا شَبِيهٌ بِعَلِيٍّ وَعَلِيٌّ يَضْحَكُ الشرح: حديث أبي بكر المشتمل على أن الحسن بن علي كان يشبه جده صلى الله عليه وسلم. قوله: (عن ابن أبي مليكة) في رواية الإسماعيلي " أخبرني " وفي أخرى " حدثني ابن أبي مليكة". قوله: (عن عقبة بن الحارث) في رواية الإسماعيلي " أخبرني عقبة بن الحارث". قوله: (صلى أبو بكر رضي الله عنه العصر ثم خرج يمشي) زاد الإسماعيلي في رواية " بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بليال، وعلي يمشي إلى جانبه". قوله: (بأبي) فيه حذف تقديره أفديه بأبي، ووقع في رواية الإسماعيلي " وارتجز فقال: وابأبي، شبيه بالنبي " وفي تسمية هذا رجزا نظر، لأنه ليس بموزون، وكأنه أطلق على السجع رجزا. ووقع من بعض الرواة تغيير وتصحيف رواية الأصل، ولعلها كانت " وابأبي وابأبي " كما دلت عليه رواية الإسماعيلي المذكورة، فهذا يكون من مجزوء الرجز، لكن قوله: " شبيه بالنبي " يحتاج إلى شيء قبله، فلعله كان شخص أو أنت شبيه بالنبي صلى الله عليه وسلم أو نحو ذلك، وأما الثالث فموزون. قوله: (وعلي يضحك) في رواية الإسماعيلي " وعلي يتبسم " أي رضا بقول أبي بكر وتصديقا له. وقد وافق أبا بكر على أن الحسن كان يشبه النبي صلى الله عليه وسلم أبو جحيفة كما سيأتي في الحديث الذي بعده، ووقع في حديث أنس كما سيأتي في المناقب أن الحسين بن علي كان أشبههم بالنبي صلى الله عليه وسلم، وسيأتي وجه التوفيق بينهما في المناقب إن شاء الله تعالى، وأذكر فيه من شاركهما في ذلك إن شاء الله تعالى. وفي الحديث فضل أبي بكر ومحبته لقرابة النبي صلى الله عليه وسلم، وسيأتي في المناقب قوله: " لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي " وفيه ترك الصبي المميز يلعب، لأن الحسن إذ ذاك كان ابن سبع سنين، وقد سمع من النبي صلى الله عليه وسلم وحفظ عنه، ولعبه محمول على ما يليق بمثله في ذلك الزمان من الأشياء المباحة، بل على ما فيه تمرين وتنشيط ونحو ذلك. والله أعلم. الحديث: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ الْحَسَنُ يُشْبِهُهُ الشرح: انظر الحديث التالي الحديث: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا جُحَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَيْهِمَا السَّلَام يُشْبِهُهُ قُلْتُ لِأَبِي جُحَيْفَةَ صِفْهُ لِي قَالَ كَانَ أَبْيَضَ قَدْ شَمِطَ وَأَمَرَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَلَاثَ عَشْرَةَ قَلُوصًا قَالَ فَقُبِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ نَقْبِضَهَا الشرح: حديث أبي جحيفة أورده من طريقين. وإسماعيل هو ابن أبي خالد، وابن فضيل بالتصغير هو محمد. قوله: (كان أبيض قد شمط) بفتح المعجمة وكسر الميم أي صار سواد شعره مخالطا لبياضه وقد بين في الرواية التي تلي هذا أن موضع الشمط كان في العنفقة ويؤيد ذلك حديث عبد الله بن بسر المذكور بعده، والعنفقة ما بين الذقن والشفة السفلى سواء كان عليها شعر أم لا. وتطلق على الشعر أيضا. وعند مسلم من رواية زهير " عن أبي إسحاق عن أبي جحيفة رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه منه بيضاء - وأشار إلى عنفقته - قيل مثل من أنت يومئذ؟ قال: أبري النبل وأريشها". قوله: (وأمر لنا) أي له ولقومه من بني سواءة - بضم المهملة وتخفيف الواو والمد والهمز وآخره هاء تأنيث - ابن عامر بن صعصعة، وكان أمر لهم بذلك على سبيل جائزة الوفد. قوله: (قلوصا) بفتح القاف، هي الأنثى من الإبل، وقيل: الشابة، وقيل: الطويلة القوائم. وقوله: (فقبض النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن نقبضها) فيه إشعار بأن ذلك كان قرب وفاته صلى الله عليه وسلم، وقد شهد أبو جحيفة ومن معه من قومه حجة الوداع كما في الرواية التي بعد هذه، فالذي يظهر أن أبا بكر وفي لهم بالوعد المذكور كما صنع بغيرهم. ثم وجدت ذلك منقولا صريحا، ففي رواية الإسماعيلي من طريق محمد بن فضيل بالإسناد المذكور " فذهبنا نقبضها فأتانا موته فلم يعطونا شيئا، فلما قام أبو بكر قال. من كانت له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة فليجيء، فقمت إليه فأخبرته فأمر لنا بها " وقد تقدم البحث في هذه المسألة في الهبة. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ وَهْبٍ أَبِي جُحَيْفَةَ السُّوَائِيِّ قَالَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَأَيْتُ بَيَاضًا مِنْ تَحْتِ شَفَتِهِ السُّفْلَى الْعَنْفَقَةَ الشرح: حديث أبي جحيفة أيضا. قوله: (عن وهب أبي جحيفة) هو اسم أبي جحيفة، وهو مشهور بكنيته أكثر من اسمه، وكان يقال له أيضا وهب الله ووهب الخير. قوله: (ورأيت بياضا من تحت شفته السفلى العنفقة) بالكسر على أنه بدل من الشفة، وبالنصب على أنه بدل من قوله: " بياضا"، ووقع عند الإسماعيلي من طريق عبيد الله بن موسى عن إسرائيل بهذا الإسناد " من تحت شفته السفلى مثل موضع إصبع العنفقة " وإصبع في هذه الرواية بالتنوين، وإعراب العنفقة كالذي قبله. وفي رواية شبابة بن سوار عن إسرائيل عنده " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم شابت عنفقته". الحديث: حَدَّثَنَا عِصَامُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا حَرِيزُ بْنُ عُثْمَانَ أَنَّهُ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ بُسْرٍ صَاحِبَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَرَأَيْتَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ شَيْخًا قَالَ كَانَ فِي عَنْفَقَتِهِ شَعَرَاتٌ بِيضٌ الشرح: وهو من ثلاثياته. قوله: (حدثنا عصام بن خالد) هو أبو إسحاق الحمصي الحضرمي من كبار شيوخ البخاري، وليس له عنه في الصحيح غيره. وأما حريز فهو بفتح المهملة وتقدم قريبا أنه من صغار التابعين. قوله: (أرأيت النبي صلى الله عليه وسلم) يحتمل أن يكون " أرأيت " بمعنى أخبرني و " النبي " بالرفع على أنه اسم كان، والتقدير: أخبرني أكان النبي صلى الله عليه وسلم شيخا؟ ويحتمل أن يكون " أرأيت " استفهاما منه هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم؟ ويكون " النبي " بالنصب على المفعولية. وقوله: (كان شيخا) استفهام ثان حذفت منه أداة الاستفهام، ويؤيد هذا الثاني رواية الإسماعيلي من وجه آخر عن حريز بن عثمان قال: " رأيت عبد الله بن بسر صاحب النبي صلى الله عليه وسلم بحمص والناس يسألونه، فدنوت منه وأنا غلام فقلت: أنت رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قلت: شيخ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أم شاب؟ قال: فتبسم " وفي رواية له " فقلت له: أكان النبي صلى الله عليه وسلم صبغ؟ قال: يا ابن أخي لم يبلغ ذلك". قوله: (قال كان في عنفقته شعرات بيض) في رواية الإسماعيلي " إنما كانت شعرات بيض. وأشار إلى عنفقته " وسيأتي بعد حديثين قول أنس " إنما كان شيء في صدغيه " وسيأتي وجه الجمع بينهما إن شاء الله تعالى. الحديث: حَدَّثَنِي ابْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ عَنْ خَالِدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَصِفُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كَانَ رَبْعَةً مِنْ الْقَوْمِ لَيْسَ بِالطَّوِيلِ وَلَا بِالْقَصِيرِ أَزْهَرَ اللَّوْنِ لَيْسَ بِأَبْيَضَ أَمْهَقَ وَلَا آدَمَ لَيْسَ بِجَعْدٍ قَطَطٍ وَلَا سَبْطٍ رَجِلٍ أُنْزِلَ عَلَيْهِ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ فَلَبِثَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ وَقُبِضَ وَلَيْسَ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ عِشْرُونَ شَعَرَةً بَيْضَاءَ قَالَ رَبِيعَةُ فَرَأَيْتُ شَعَرًا مِنْ شَعَرِهِ فَإِذَا هُوَ أَحْمَرُ فَسَأَلْتُ فَقِيلَ احْمَرَّ مِنْ الطِّيبِ الشرح: حديث أنس من رواية ربيعة عنه، وهو ابن أبي عبد الرحمن فروخ الفقيه المدني المعروف بربيعة الرأي، وقد أورده من طريقين: أحدهما: من رواية خالد، وهو ابن يزيد الجمحي المصري، وكان من أقران الليث بن سعد لكنه مات قبله، وقد أكثر عنه الليث. قوله: (كان ربعة) بفتح الراء وسكون الموحدة أي مربوعا، والتأنيث باعتبار النفس، يقال رجل ربعة وامرأة ربعة، وقد فسره في الحديث المذكور بقوله: " ليس بالطويل البائن ولا بالقصير " والمراد بالطويل البائن المفرط في الطول مع اضطراب القامة، وسيأتي في حديث البراء بعد قليل أنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم مربوعا " ووقع في حديث أبي هريرة عند الذهلي في " الزهريات " بإسناد حسن " كان ربعة وهو إلى الطول أقرب". قوله: (أزهر اللون) أي أبيض مشرب بحمرة، وقد وقع ذلك صريحا في حديث أنس من وجه آخر عند مسلم، وعند سعيد بن منصور والطيالسي والترمذي والحاكم من حديث علي قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم أبيض مشربا بياضه بحمرة " وهو عند ابن سعد أيضا عن علي، وعن جابر، وعند البيهقي من طرق عن علي، وفي " الشمائل " من حديث هند بن أبي هالة أنه أزهر اللون. قوله: (ليس بأبيض أمهق) كذا في الأصول، ووقع عند الداودي تبعا لرواية المروزي " أمهق ليس بأبيض " واعترضه الداودي. وقال عياض: إنه وهم، قال: وكذلك رواية من روى أنه ليس بالأبيض ولا الآدم ليس بصواب، كذا قال، وليس بجيد في هذا الثاني، لأن المراد أنه ليس بالأبيض الشديد البياض ولا بالآدم الشديد الأدمة، وإنما يخالط بياضه الحمرة، والعرب قد تطلق على من كان كذلك أسمر، ولهذا جاء في حديث أنس عند أحمد والبزار وابن منده بإسناد صحيح وصححه ابن حبان " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أسمر " وقد رد المحب الطبري هذه الرواية بقوله: في حديث الباب من طريق مالك عن ربيعة " ولا بالأبيض الأمهق وليس بالآدم " والجمع بينهما ممكن وأخرجه البيهقي في " الدلائل " من وجه آخر عن أنس فذكر الصفة النبوية قال: " كان رسول صلى الله عليه وسلم أبيض بياضه إلى السمرة " وفي حديث يزيد الرقاشي عن ابن عباس في صفة النبي صلى الله عليه وسلم " رجل بين رجلين جسمه ولحمه أحمر " وفي لفظ " أسمر إلى البياض " أخرجه أحمد وسنده حسن، وتبين من مجموع الروايات أن المراد بالسمرة الحمرة التي تخالط البياض، وأن المراد بالبياض المثبت ما يخالطه الحمرة، والمنفي ما لا يخالطه، وهو الذي تكره العرب لونه وتسميه أمهق، وبهذا تبين أن رواية المروزي " أمهق ليس بأبيض " مقلوبة والله أعلم، على أنه يمكن توجيهها بأن المراد بالأمهق الأخضر اللون الذي ليس بياضه في الغاية ولا سمرته ولا حمرته، فقد نقل عن رؤبة أن المهق خضرة الماء، فهذا التوجيه يتم على تقدير ثبوت الرواية، وقد تقدم في حديث أبي جحيفة إطلاق كونه أبيض، وكذا في حديث أبي الطفيل عند مسلم. وفي رواية عند الطبراني " ما أنسى شدة بياض وجهه مع شدة سواد شعره " وكذا في شعر أبي طالب المتقدم في الاستسقاء " وأبيض يستسقي الغمام بوجهه " وفي حديث سراقة عند ابن إسحاق " فجعلت أنظر إلى ساقه كأنها جمارة " ولأحمد من حديث محرش الكعبي في عمرة الجعرانة أنه قال: " فنظرت إلى ظهره كأنه سبيكة فضة " وعن سعيد بن المسيب أنه سمع أبا هريرة يصف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " كان شديد البياض " أخرجه يعقوب بن سفيان والبزار بإسناد قوي، والجمع بينهما بما تقدم. وقال البيهقي: يقال إن المشرب منه حمرة وإلى السمرة ما ضحى منه للشمس والريح، وأما ما تحت الثياب فهو الأبيض الأزهر. قلت: وهذا ذكره ابن أبي خيثمة عقب حديث عائشة في صفته صلى الله عليه وسلم بأبسط من هذا وزاد " ولونه الذي لا يشك فيه الأبيض الأزهر " وأما ما وقع في " زيادات عبد الله بن أحمد في المسند " من طريق علي " أبيض مشرب شديد الوضح " فهو مخالف لحديث أنس " ليس بالأمهق " وهو أصح، ويمكن الجمع بحمل ما في رواية علي على ما تحت الثياب مما لا يلاقي الشمس، والله أعلم. قوله: (ليس بجعد قطط ولا سبط) بفتح أوله وكسر الموحدة، والجعودة في الشعر أن لا يتكسر ولا يسترسل والسبوطة ضده، فكأنه أراد أنه وسط بينهما. ووقع في حديث علي عند الترمذي وابن أبي خيثمة " ولم يكن بالجعد القطط، ولا بالسبط، كان جعدا رجلا " وقوله: رجل بكسر الجيم - ومنهم من يسكنها - أي متسرح، وهو مرفوع على الاستئناف، أي هو رجل. ووقع عند الأصيلي بالخفض وهو وهم لأنه يصير معطوفا على المنفي، وقد وجه على أنه خفضه على المجاورة، وفي بعض الروايات بفتح اللام وتشديد الجيم على أنه فعل ماض. قوله: (أنزل عليه) في رواية مالك " بعثه الله". قوله: (وهو ابن أربعين) في رواية مالك " على رأس أربعين " وهذا إنما يتم على القول بأنه بعث في الشهر الذي ولد فيه، والمشهور عند الجمهور أنه ولد في شهر ربيع الأول وأنه بعث في شهر رمضان، فعلى هذا يكون له حين بعث أربعون سنة ونصف أو تسع وثلاثون ونصف، فمن قال أربعين ألغي الكسر أو جبر، لكن قال المسعودي وابن عبد البر: إنه بعث في شهر ربيع الأول. فعلى هذا يكون له أربعون سنة سواء. وقال بعضهم: بعث وله أربعون سنة وعشرة أيام، وعند الجعابي أربعون سنة وعشرون يوما، وعن الزبير بن بكار أنه ولد في شهر رمضان وهو شاذ، فإن كان محفوظا وضم إلى المشهور أن المبعث في رمضان فيصح أنه بعث عند إكمال الأربعين أيضا. وأبعد منه قول من قال: بعث في رمضان وهو ابن أربعين سنة وشهرين، فإنه يقتضي أنه ولد في شهر رجب، ولم أر من صرح به. ثم رأيته كذلك مصرحا به في " تاريخ أبي عبد الرحمن العتقي " وعزاه للحسين بن علي وزاد " لسبع وعشرين من رجب " وهو شاذ. ومن الشاذ أيضا ما رواه الحاكم من طريق يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال: " أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وأربعين " وهو قول الواقدي، وتبعه البلاذري وابن أبي عاصم، وفي " تاريخ يعقوب بن سفيان " وغيره عن مكحول أنه بعث بعد ثنتين وأربعين. قوله: (فلبث بمكة عشر سنين ينزل عليه) مقتضى هذا أنه عاش ستين سنة. وأخرج مسلم من وجه آخر عن أنس " أنه صلى الله عليه وسلم عاش ثلاثا وستين " وهو موافق لحديث عائشة الماضي قريبا وبه قال الجمهور. وقال الإسماعيلي: لا بد أن يكون الصحيح أحدهما، وجمع غيره بإلغاء الكسر، وسيأتي بقية الكلام على هذا الموضع في الوفاة آخر المغازي إن شاء الله تعالى. قوله: (وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء) أي بل دون ذلك، ولابن أبي خيثمة من طريق أبي بكر بن عياش " قلت لربيعة: جالست أنسا؟ قال: نعم، وسمعته يقول: شاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرين شيبة هاهنا يعني العنفقة " ولإسحاق بن راهويه وابن حبان والبيهقي من حديث ابن عمر " كان شيب رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوا من عشرين شعرة بيضاء في مقدمه " وقد اقتضى حديث عبد الله بن بسر أن شيبه كان لا يزيد على عشر شعرات لإيراده بصيغة جمع القلة، لكن خص ذلك بعنفقته، فيحمل الزائد على ذلك في صدغيه كما في حديث البراء، لكن وقع عند ابن سعد بإسناد صحيح عن حميد عن أنس في أثناء حديث قال: " ولم يبلغ ما في لحيته من الشيب عشرين شعرة " قال حميد: " وأومأ إلى عنفقته سبع عشرة " وقد روى ابن سعد أيضا بإسناد صحيح عن ثابت عن أنس قال " ما كان رأس النبي صلى الله عليه وسلم ولحيته إلا سبع عشرة أو ثماني عشرة " ولابن أبي خيثمة من حديث حميد عن أنس " لم يكن في لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرون شعرة بيضاء. قال حميد: كن سبع عشرة " وفي مسند عبد بن حميد من طريق حماد عن ثابت عن أنس " ما عددت في رأسه ولحيته إلا أربع عشرة شعرة " وعند ابن ماجه من وجه آخر عن أنس " إلا سبع عشرة أو عشرين شعرة " وروى الحاكم في " المستدرك " من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل عن أنس قال: " لو عددت ما أقبل علي من شيبه في رأسه ولحيته ما كنت أزيدهن على إحدى عشرة شيبة " وفي حديث الهيثم بن زهير عند " ثلاثون عددا". قوله: (قال ربيعة) هو موصول بالإسناد المذكور. قوله: (فرأيت شعرا من شعره فإذا هو أحمر فسألت فقيل أحمر من الطيب) لم أعرف المسئول المجيب بذلك، إلا أنه في رواية ابن عقيل المذكورة من قبل أن عمر بن عبد العزيز قال لأنس: " هل خضب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فإني رأيت شعرا من شعره قد لون، فقال: إنما هذا الذي لون من الطيب الذي كان يطيب به شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو الذي غير لونه " فيحتمل أن يكون ربيعة سأل أنسا عن ذلك فأجابه. ووقع في " رجال مالك " للدار قطني وهو في " غرائب مالك " له عن أبي هريرة قال: " لما مات النبي صلى الله عليه وسلم خضب من كان عنده شيء من شعره ليكون أبقى لها". قلت: فإن ثبت هذا استقام إنكار أنس، ويقبل ما أثبته سواه التأويل، وستأتي الإشارة إلى شيء من ذلك في كتاب اللباس إن شاء الله تعالى. الحديث: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ يَقُولُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ وَجْهًا وَأَحْسَنَهُ خَلْقًا لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الْبَائِنِ وَلَا بِالْقَصِيرِ الشرح: حديث البراء. قوله: (حدثنا إبراهيم بن يوسف) أي ابن إسحاق بن أبي إسحاق السبيعي. قوله: (وأحسنه خلقا) بفتح المعجمة للأكثر، وضبطه ابن التين بضم أوله واستشهد بقوله تعالى: وقد وقع في حديث أنس الذي يتعلق بفرس أبي طلحة الذي قال فيه: " إن وجدناه لبحرا " وهو عنده في مواضع، منها أن في أوله في باب الشجاعة في الحرب " كان أحسن الناس وأشجع الناس وأجود الناس " فجمع صفات القوي الثلاث العقلية والغضبية والشهوانية، فالشجاعة تدل على الغضبية، والجود يدل على الشهوية، والحسن تابع لاعتدال المزاج المستتبع لصفاء النفس الذي به جودة القريحة الدال على العقل، فوصف بالأحسنية في الجميع. ومضى في الجهاد والخمس حديث جبير بن مطعم أنه صلى الله عليه وسلم قال: " ثم لا تجدوني بخيلا ولا كذوبا ولا جبانا " فأشار بعدم الجبن إلى كمال القوة الغضبية وهي الشجاعة، وبعدم الكذب إلى كمال القوة العقلية وهي الحكمة، وبعدم البخل إلى كمال القوة الشهوانية وهو الجود. قوله: (ليس بالطويل البائن ولا بالقصير) تقدم في حديث ربيعة عن أنس أنه كان ربعة، ووقع في حديث عائشة عند ابن أبي خيثمة " لم يكن أحد يماشيه من الناس ينسب إلى الطول إلا طاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولربما اكتنفه الرجلان الطويلان فيطولهما، فإذا فارقاه نسبا إلى الطول، ونسب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الربعة " وقوله: (البائن) بالموحدة اسم فاعل من بان أي ظهر على غيره أو فارق من سواء. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ سَأَلْتُ أَنَسًا هَلْ خَضَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا إِنَّمَا كَانَ شَيْءٌ فِي صُدْغَيْهِ الشرح: حديث قتادة " سألت أنسا: هل خضب النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: إنما كان شيء في صدغيه " الصدغ بضم المهملة وإسكان الدال بعدها معجمة ما بين الأذن والعين، ويقال ذلك أيضا للشعر المتدلي من الرأس في ذلك المكان، وهذا مغاير للحديث السابق أن الشعر الأبيض كان في عنفقته، ووجه الجمع ما وقع عند مسلم من طريق سعيد عن قتادة عن أنس قال: " لم يخضب رسول الله وإنما كان البياض في عنفقته وفي الصدغين، وفي الرأس نبذ " أي متفرق، وعرف من مجموع ذلك أن الذي شاب من عنفقته أكثر مما شاب من غيرها، ومراد أنس أنه لم يكن في شعره ما يحتاج إلى الخضاب، وقد صرح بذلك في رواية محمد بن سيرين قال: " سألت أنس بن مالك: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم خضب؟ قال: لم يبلغ الخضاب " ولمسلم من طريق حماد عن ثابت عن أنس " لو شئت أن أعد شمطات كن في رأسه لفعلت " زاد ابن سعد والحاكم " ما شانه بالشيب " ولمسلم من حديث جابر بن سمرة " فقد شمط مقدم رأسه ولحيته، وكان إذا ادهن لم يتبين، فإذا لم يدهن تبين " وأما ما رواه الحاكم وأصحاب السنن من حديث أبي رمثة قال " أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه بردان أخضران، وله شعر قد علاه الشيب، وشيبه أحمر مخضوب بالحناء " فهو موافق لقول ابن عمر " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخضب بالصفرة " وقد تقدم في الحج وغيره، والجمع بينه وبين حديث أنس أن يحمل نفي أنس على غلبة الشيب حتى يحتاج إلى خضابه ولم يتفق أنه رآه وهو مخضب، ويحمل حديث من أثبت الخضب على أنه فعله لإرادة بيان الجواز ولم يواظب عليه. وأما ما تقدم عن أنس وأخرجه الحاكم من حديث عائشة قالت: " ما شانه الله ببيضاء " فمحمول على أن تلك الشعرات البيض لم يتغير بها شيء من حسنه صلى الله عليه وسلم، وقد أنكر أحمد إنكار أنس أنه خضب، وذكر حديث ابن عمر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يخضب بالصفرة وهو في الصحيح، ووافق مالك أنسا في إنكار الخضاب وتأول ما ورد في ذلك. الحديث: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرْبُوعًا بَعِيدَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ لَهُ شَعَرٌ يَبْلُغُ شَحْمَةَ أُذُنِهِ رَأَيْتُهُ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ لَمْ أَرَ شَيْئًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ قَالَ يُوسُفُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِيهِ إِلَى مَنْكِبَيْهِ الشرح: حديث البراء. قوله: (بعيد ما بين المنكبين) أي عريض أعلى الظهر، ووقع في حديث أبي هريرة عند ابن سعد " رحب الصدر". قوله: (له شعر يبلغ شحمة أذنه) في رواية الكشميهني " أذنيه " بالتثنية. وفي رواية الإسماعيلي " تكاد جمته تصيب شحمة أذنيه". قوله: (وقال يوسف بن أبي إسحاق) هو يوسف بن إسحاق ابن أبي إسحاق نسبه إلى جده. قوله: (إلى منكبيه) أي زاد في روايته عن جده أبي إسحاق عن البراء في هذا الحديث له شعر يبلغ شحمة أذنيه إلى منكبيه، وطريق يوسف هذه أوردها المصنف قبل هذا بحديث لكنه اختصرها، قال ابن التين تبعا للداودي: قوله: " يبلغ شحمة أذنيه " مغاير لقوله: " إلى منكبيه " وأجيب بأن المراد أن معظم شعره كان عند شحمة أذنه، وما استرسل منه متصل إلى المنكب. أو يحمل على حالتين. وقد وقع نظير ذلك في حديث أنس عند مسلم من رواية قتادة عنه أن شعره " كان بين أذنيه وعاتقه " وفي حديث حميد عنه " إلى أصناف أذنيه " ومثله عند الترمذي من رواية ثابت عنه، وعند ابن سعد من رواية حماد عن ثابت عنه " لا يجاوز شعره أذنيه " وهو محمول على ما قدمته، أو على أحوال متغايرة. وروى أبو داود من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: " كان شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق الوفرة ودون الجمة " وفي حديث هند بن أبي هالة في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الترمذي وغيره " فلا يجاوز شعره شحمة أذنيه إذا هو وفره " أي جعله وفرة، فهذا القيد يؤيد الجمع المتقدم. وروى أبو داود والترمذي من حديث أم هانئ قالت: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وله أربع غدائر " ورجاله ثقات. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ سُئِلَ الْبَرَاءُ أَكَانَ وَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ السَّيْفِ قَالَ لَا بَلْ مِثْلَ الْقَمَرِ الشرح: حديث البراء أيضا. قوله: (حدثنا زهير) هو ابن معاوية وأبو إسحاق هو السبيعي. قوله: (سئل البراء) في رواية الإسماعيلي من طريق أحمد بن يونس عن زهير " حدثنا أبو إسحاق عن البراء قال له رجل". قوله: (مثل السيف قال لا بل مثل القمر) كأن السائل أراد أنه مثل السيف في الطول، فرد عليه البراء فقال: " بل مثل القمر " أي في التدوير، ويحتمل أن يكون أراد مثل السيف في اللمعان والصقال؟ فقال: بل فوق ذلك، وعدل إلى القمر لجمعه الصفتين من التدوير واللمعان: ووقع في رواية زهير المذكورة " أكان وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حديدا مثل السيف "؟ وهو يؤيد الأول. وقد أخرج مسلم من حديث جابر بن سمرة " أن رجلا قال له: أكان وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل السيف؟ قال: لا بل مثل الشمس والقمر مستديرا " وإنما قال: " مستديرا " للتنبيه على أنه جمع الصفتين، لأن قوله " مثل السيف " يحتمل أن يريد به الطول أو اللمعان، فرده المسئول ردا بليغا. ولما جرى التعارف في أن التشبيه بالشمس إنما يراد به غالبا الإشراق، والتشبيه بالقمر إنما يراد به الملاحة دون غيرهما، أتى بقوله: " وكان مستديرا " إشارة إلى أنه أراد التشبيه بالصفتين معا: الحسن والاستدارة. ولأحمد وابن سعد وابن حبان عن أبي هريرة " ما رأيت شيئا أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأن الشمس تجري في جبهته " قال الطيبي: شبه جريان الشمس في فلكها بجريان الحسن في وجهه صلى الله عليه وسلم، وفيه عكس التشبيه للمبالغة، قال: ويحتمل أن يكون من باب تناهي التشبيه جعل وجهه مقرا ومكانا للشمس. وروى يعقوب بن سفيان في تاريخه من طريق يونس بن أبي يعفور عن أبي إسحاق السبيعي عن امرأة من همدان قال: " حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لها: شبهيه. قالت: كالقمر ليلة البدر، لم أر قبله ولا بعده مثله " وفي حديث الربيع بنت معوذ " لو رأيته لرأيت الشمس طالعة " أخرجه الطبراني والدارمي، وفي حديث يزيد الرقاشي المتقدم قريبا عن ابن عباس " جميل دوائر الوجه، قد ملأت لحيته من هذه إلى هذه حتى كادت تملأ نحره " وروى الذهلي في " الزهريات " من حديث أبي هريرة في صفته صلى الله عليه وسلم " كان أسيل الخدين، شديد سواد الشعر، أكحل العينين، أهدب الأشفار " الحديث. وكأن قوله: " أسيل الخدين " هو الحامل على من سأل: أكان وجهه مثل السيف؟ ووقع في حديث علي عند أبي عبيد في الغريب " وكان في وجهه تدوير " قال أبو عبيد في شرحه: يريد أنه لم يكن في غاية من التدوير بل كان فيه سهولة، وهي أحلى عند العرب. الحديث: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مَنْصُورٍ أَبُو عَلِيٍّ حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَعْوَرُ بِالْمَصِّيصَةِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا جُحَيْفَةَ قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهَاجِرَةِ إِلَى الْبَطْحَاءِ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةٌ قَالَ شُعْبَةُ وَزَادَ فِيهِ عَوْنٌ عَنْ أَبِيهِ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ كَانَ يَمُرُّ مِنْ وَرَائِهَا الْمَرْأَةُ وَقَامَ النَّاسُ فَجَعَلُوا يَأْخُذُونَ يَدَيْهِ فَيَمْسَحُونَ بِهَا وُجُوهَهُمْ قَالَ فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ فَوَضَعْتُهَا عَلَى وَجْهِي فَإِذَا هِيَ أَبْرَدُ مِنْ الثَّلْجِ وَأَطْيَبُ رَائِحَةً مِنْ الْمِسْكِ الشرح: قوله: (حدثنا الحسن بن منصور البغدادي) هو أبو علي البغدادي الشطوي بفتح المعجمة ثم المهملة، لم يخرج عنه البخاري سوى هذا الموضع. قوله: (قال شعبة) هو متصل بالإسناد المذكور. قوله: (وزاد فيه عون عن أبيه أبي جحيفة) سيأتي هذا الحديث بزيادته من وجه آخر في آخر الباب، وقد تقدم ما يتعلق بذلك في أوائل الصلاة. قوله: (فإذا هي أبرد من الثلج وأطيب رائحة من المسك) وقع مثله في حديث جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه عند الطبراني بإسناد قوي، وفي حديث جابر بن سمرة عند مسلم في أثناء حديث قال: " فمسح صدري فوجدت ليده بردا - أو ريحا - كأنما أخرجها من جونة عطار " وفي حديث وائل بن حجر عند الطبراني والبيهقي " لقد كنت أصافح رسول الله صلى الله عليه وسلم - أو يمس جلدي جلده - فأتعرفه بعد في يدي وإنه لأطيب رائحة من المسك " وفي حديثه عند أحمد " أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدلو من ماء، فشرب منه ثم مج في الدلو ثم في البئر ففاح منه مثل ريح المسك " وروى مسلم حديث أنس في جمع أم سليم عرقه صلى الله عليه وسلم وجعلها إياه في الطيب، وفي بعض طرقه " وهو أطيب الطيب". وأخرج أبو يعلى والطبراني من حديث أبي هريرة في قصة الذي استعان به صلى الله عليه وسلم على تجهيز ابنته " فلم يكن عنده شيء، فاستدعى بقارورة فسلت له فيها من عرقه وقال له: مرها فلتطيب به، فكانت إذا تطيبت به شم أهل المدينة رائحة ذلك الطيب فسموا بيت المطيبين " وروى أبو يعلى والبزار بإسناد صحيح عن أنس " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر في طريق من طرق المدينة وجد منه رائحة المسك، فيقال مر رسول الله صلى الله عليه وسلم". الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ وَأَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ وَكَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ الشرح: حديث ابن عباس " كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس " تقدم شرحه مستوفى في كتاب الصيام، والغرض منه وصفه عليه الصلاة والسلام بالجود. الحديث: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا مَسْرُورًا تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ فَقَالَ أَلَمْ تَسْمَعِي مَا قَالَ الْمُدْلِجِيُّ لِزَيْدٍ وَأُسَامَةَ وَرَأَى أَقْدَامَهُمَا إِنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْأَقْدَامِ مِنْ بَعْضٍ الشرح: حديث عائشة في قصة القائف، وسيأتي شرحه في كتاب الفرائض إن شاء الله تعالى. والغرض منه هنا قولها: " تبرق أسارير وجهه " والأسارير جمع أسرار وهي جمع سر وهي الخطوط التي تكونت في الجبهة. الحديث: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبٍ قَالَ سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ تَبُوكَ قَالَ فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنْ السُّرُورِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ وَكُنَّا نَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهُ الشرح: حديث كعب بن مالك وهو طرف من قصة توبته، وسيأتي بطوله في المغازي مستوفى شرحه إن شاء الله تعالى. قوله: (استنار وجهه كأنه قطعة قمر) أي الموضع الذي يبين فيه السرور، وهو جبينه، فلذلك قال: " قطعة قمر " ولعله كان حينئذ ملثما، ويحتمل، أن يكون يريد بقوله قطعة قمر القمر نفسه. ووقع في حديث جبير بن مطعم عند الطبراني " التفت إلينا النبي صلى الله عليه وسلم بوجهه مثل شقة القمر " فهذا محمول على صفته عند الالتفات، وقد أخرج الطبراني حديث كعب بن مالك من طرق في بعضها " كأنه دارة قمر". الحديث: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَمْرٍو عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ بُعِثْتُ مِنْ خَيْرِ قُرُونِ بَنِي آدَمَ قَرْنًا فَقَرْنًا حَتَّى كُنْتُ مِنْ الْقَرْنِ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ الشرح: حديث أبي هريرة. قوله: (عن عمرو) هو ابن أبي عمرو مولى المطلب، واسم أبي عمرو ميسرة. قوله: (بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا) القرن الطبقة من الناس المجتمعين في عصر واحد، ومنهم من حده بمائة سنة وقيل بسبعين، وقيل بغير ذلك. فحك الحربي الاختلاف فيه من عشرة إلى مائة وعشرين، ثم تعقب الجميع وقال: الذي أراه أن القرن كل أمة هلكت حتى لم يبق منها أحد. وقوله: (قرنا) بالنصب حال للتفصيل. قوله: (حتى كنت من القرن الذي كنت منه) في رواية الإسماعيلي " حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه " وسيأتي في أول مناقب الصحابة حديث عمران بن حصين " خير الناس قرني " والكلام عليه مستوفى إن شاء الله تعالى. الحديث: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْدِلُ شَعَرَهُ وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَفْرُقُونَ رُءُوسَهُمْ فَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَسْدِلُونَ رُءُوسَهُمْ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ بِشَيْءٍ ثُمَّ فَرَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ الشرح: حديث ابن عباس. قوله: (عن ابن شهاب أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة) هذا هو المشهور عن ابن شهاب، وعنه فيه إسناد آخر أخرجه الحاكم من طريق مالك عن زياد بن سعد عن أنس " سدل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناصيته ما شاء الله، ثم فرق بعد " وأخرجه أيضا أحمد وقال: تفرد به حماد بن خالد عن مالك وأخطأ فيه، والصواب عن عبيد الله بن عبد الله. وقال ابن عبد البر: الصواب عن مالك فيه عن الزهري مرسلا كما في الموطأ. قوله: (يسدل شعره) بفتح أوله وسكون المهملة وكسر الدال، ويجوز ضمها، أي يترك شعر ناصيته على جبهته. قال النووي: قال العلماء المراد إرساله على الجبين واتخاذه كالقصة، أي بضم القاف بعدها مهملة. قوله: " ثم فرق بعد " بفتح الفاء والراء أي ألقى شعر رأسه إلى جانبي رأسه فلم يترك منه شيئا على جبهته، ويفرقون بضم الراء وبكسرها وقد روى ابن إسحاق عن محمد بن جعفر عن عروة عن عائشة قالت: " أنا فرقت لرسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه " أي شعر رأسه عن يافوخه، ومن طريقه أخرجه أبو داود، وفي حديث هند بن أبي هالة في صفة النبي صلى الله عليه وسلم أنه " إن انفرقت عقيقته - أي شعر رأسه الذي على ناصيته - فرق وإلا فلا يجاوز شعره شحمة أذنه " قال ابن قتيبة في غريبه: العقيقة شعر رأس الصبي قبل أن يحلق، وقد يطلق عليه بعد الحلق مجازا. وقوله. " كان لا يفرق شعره إلا إذا انفرق " محمول على ما كان أولا لما بينه حديث ابن عباس. قوله: (وكان يحب موافقة أهل الكتاب) أي حيث كان عباد الأوثان كثيرين. قوله: (فيما لم يؤمر فيه بشيء) أي فيما لم يخالف شرعه لأن أهل الكتاب في زمانه كانوا متمسكين ببقايا من شرائع الرسل فكانت موافقتهم أحب إليه من موافقة عباد الأوثان، فلما أسلم غالب عباد الأوثان أحب صلى الله عليه وسلم حينئذ مخالفة أهل الكتاب. واستدل به على أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يجيء في شرعنا ما يخالفه، وتعقب بأنه عبر بالمحبة، ولو كان ذلك لعبر بالوجوب. وعلى التسليم ففي نفس الحديث أنه رجع عن ذلك آخرا والله أعلم. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا وَكَانَ يَقُولُ إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحْسَنَكُمْ أَخْلَاقًا الشرح: حديث عبد الله بن عمرو أي ابن العاص. قوله: (عن أبي حمزة) هو السكري، والإسناد كله كوفيون سوى طرفيه وقد دخلاها. قوله: (عن عبد الله بن عمرو) أي ابن العاص، في رواية مسلم عن عثمان بن أبي شيبة عن جرير عن الأعمش بسنده " دخلنا على عبد الله بن عمرو حين قدم مع معاوية الكوفة فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال". قوله: (فاحشا ولا متفحشا) أي ناطقا بالفحش، وهو الزيادة على الحد في الكلام السيئ، والمتفحش المتكلف لذلك أي لم يكن له الفحش خلقا ولا مكتسبا، ووقع عند الترمذي من طريق أبي عبد الله الجدلي قال " سألت عائشة عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: لم يكن فاحشا ولا متفحشا، ولا سخابا في الأسواق، ولا يحزي بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح " وتقدمت هذه الزيادة في حديث عبد الله بن عمرو من وجه آخر بأتم من هذا السياق، ويأتي في تفسير سورة الفتح، وقد روى المصنف في الأدب من حديث أنس " لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبابا ولا فحاشا ولا لعانا، كان يقول لأحدنا عند المعتبة: ما له تربت جبينه " ولأحمد من حديث أنس " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يواجه أحدا في وجهه بشيء يكرهه " ولأبي داود من حديث عائشة " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عن الرجل الشيء لم يقل: ما بال فلان يقول؟ ولكن يقول: ما بال أقوام يقولون". قوله: (وكان يقول) أي النبي صلى الله عليه وسلم. ووقع في رواية مسلم " قال وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: (إن من خياركم أحسنكم أخلاقا) في رواية مسلم " أحاسنكم وحسن الخلق: اختيار الفضائل، وترك الرذائل. وقد أخرج أحمد من حديث أبي هريرة رفعه " إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق " وأخرجه البزار من هذا الوجه بلفظ " مكارم " بدل " صالح " وأخرج الطبراني في الأوسط بإسناد حسن عن صفية بنت حيي قالت " ما رأيت أحدا أحسن خلقا من رسول الله صلى الله عليه وسلم " وعند مسلم من حديث عائشة " كان خلقه القرآن، يغضب لغضبه ويرضى لرضاه". الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ بِهَا الشرح: حديث عائشة: قوله: (بين أمرين) أي من أمور الدنيا، يدل عليه قوله " ما لم يكن إثما " لأن أمور الدين لا إثم فيها، وأبهم فاعل " خير " ليكون أعم من أن يكون من قبل الله أو من قبل المخلوقين، وقوله "إلا أخذ أيسرهما " أي أسهلهما. وقوله "ما لم يكن إثما " أي ما لم يكن الأسهل مقتضيا للإثم فإنه حينئذ يختار الأشد. وفي حديث أنس عند الطبراني في الأوسط " إلا اختار أيسرهما ما لم يكن لله فيه سخط " ووقوع التخيير بين ما فيه إثم وما لا إثم فيه من قبل المخلوق واضح، وأما من قبل الله ففيه إشكال لأن التخيير إنما يكون بين جائزين، لكن إذا حملناه على ما يفضي إلى الإثم أمكن ذلك بأن يخيره بين أن يفتح عليه من كنوز الأرض ما يخشى من الاشتغال به أن لا يتفرغ للعبادة مثلا وبين أن لا يؤتيه من الدنيا إلا الكفاف فيختار الكفاف وإن كانت السعة أمهل منه، والإثم على هذا أمر نسبي لا يراد منه معنى الخطيئة لثبوت العصمة له. قوله: (وما انتقم لنفسه) أي خاصة، فلا يرد أمره بقتل عقبة بن أبي معيط وعبد الله بن خطل وغيرهما ممن كان يؤذيه لأنهم كانوا مع ذلك ينتهكون حرمات الله، وقيل أرادت أنه لا ينتقم إذا أوذي في غير السبب الذي يخرج إلى الكفر، كما عفا عن الأعرابي الذي جفا في رفع صوته عليه، وعن الآخر الذي جبذ بردائه حتى أثر في كتفه، وحمل الداودي عدم الانتقام على ما يختص بالمال، قال: وأما العرض فقد اقتص ممن نال منه، قال: واقتص ممن لده في مرضه بعد نهيه عن ذلك بأن أمر بلدهم مع أنهم كانوا في ذلك تأولوا أنه إنما نهاهم عن عادة البشرية من كراهة النفس للدواء، كذا قال، وقد أخرج الحاكم هذا الحديث من طريق معمر عن الزهري بهذا الإسناد مطولا وأوله " ما لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلما بذكر - أي بصريح اسمه - ولا ضرب بيده شيئا قط إلا أن يضرب بها في سبيل الله، ولا سئل في شيء قط فمنعه إلا أن يسأل مأثما، ولا انتقم لنفسه من شيء إلا أن تنتهك حرمات الله فيكون لله ينتقم " الحديث. وهذا السياق سوى صدر الحديث عند مسلم من طريق هشام بن عروة عن أبيه به، وأخرجه الطبراني في " الأوسط " من حديث أنس وفيه " وما انتقم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله، فإن انتهكت حرمة الله كان أشد الناس غضبا لله " وفي الحديث الحث على ترك الأخذ بالشيء العسر، والاقتناع باليسر، وترك الإلحاح فيما لا يضطر إليه. ويؤخذ من ذلك الندب إلى الأخذ بالرخص ما لم يظهر الخطأ، والحث على العفو إلا في حقوق الله تعالى، والندب إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومحل ذلك ما لم يفض إلى ما هو أشد منه. وفيه ترك الحكم للنفس وإن كان الحاكم متمكنا من ذلك بحيث يؤمن منه الحيف على المحكوم عليه، لكن لحسم المادة والله أعلم. الحديث: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مَا مَسِسْتُ حَرِيرًا وَلَا دِيبَاجًا أَلْيَنَ مِنْ كَفِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا شَمِمْتُ رِيحًا قَطُّ أَوْ عَرْفًا قَطُّ أَطْيَبَ مِنْ رِيحِ أَوْ عَرْفِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشرح: حديث أنس أخرجه من طريق حماد بن زيد، وأخرجه مسلم بمعناه من رواية سليمان بن المغيرة عن ثابت عنه. قوله: (ما مسست) بمهملتين الأولى مكسورة ويجوز فتحها والثانية ساكنة، وكذا القول في ميم شممت. قوله: (ولا ديباجا) هو من عطف الخاص على العام، لأن الديباج نوع من الحرير، وهو بكسر المهملة وحكي فتحها. وقال أبو عبيدة الفتح مولد أي ليس بعربي. قوله: (ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم) قيل هذا يخالف ما وقع في حديث أنس الآتي في كتاب اللباس " أنه كان ضخم اليدين " وفي رواية له " والقدمين " وفي رواية له " شثن القدمين والكفين " وفي حديث هند بن أبي هالة الذي أخرجه الترمذي في صفة النبي صلى الله عليه وسلم فإن فيه أنه " كان شثن الكفين والقدمين " أي غليظهما في خشونة وهكذا وصفه علي من عدة طرق عنه عند الترمذي والحاكم وابن أبي خيثمة وغيرهم، وكذا في صفة عائشة له عند ابن أبي خيثمة، والجمع بينهما أن المراد اللين في الجلد والغلظ في العظام فيجتمع له نعومة البدن وقوته، أو حيث وصف باللين واللطافة حيث لا يعمل بهما شيئا كان بالنسبة إلى أصل الخلقة، وحيث وصف بالغلظ والخشونة فهو بالنسبة إلى امتهانهما بالعمل، فإنه يتعاطى كثيرا من أموره بنفسه صلى الله عليه وسلم، وسيأتي مزيد لهذا في كتاب اللباس إن شاء الله تعالى. وفي حديث معاذ عند الطبراني والبزار " أردفني النبي صلى الله عليه وسلم خلفه في سفر، فما مسست شيئا قط ألين من جلده صلى الله عليه وسلم. قوله: (أو عرفا) بفتح المهملة وسكون الراء بعدها فاء، وهو شك من الراوي، ويدل عليه قوله بعد " أطيب من ريح أو عرف " والعرف الريح الطيب. ووقع في بعض الروايات بفتح الراء والقاف، و " أو " على هذا للتنويع والأول هو المعروف، فقد تقدم في الصيام من طريق حميد عن أنس " مسكة ولا عنبرة أطيب رائحة من ريح رسول الله صلى الله عليه وسلم " وقوله " عنبرة " ضبط بوجهين: أحدهما بسكون النون بعدها موحدة، والآخر بكسر الموحدة بعدها تحتانية، والأول معروف، والثاني طيب معمول من أخلاط يجمعها الزعفران، وقيل هو الزعفران نفسه. ووقع عند البيهقي " ولا شممت مسكا ولا عنبرا ولا عبيرا " ذكرهما جميعا وقد تقدم شيء من هذا في الحديث العاشر. وقوله "من ريح أو عرف " بخفض ريح بغير تنوين لأنه في حكم المضاف كقول الشاعر بين ذراعي وجبهة الأسد ووقع في أول الحديث عند مسلم " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أزهر اللون، كأن عرقه اللؤلؤ، إذا مشى يتكفأ، وما مسست إلخ". الحديث: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عُتْبَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ حَيَاءً مِنْ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى وَابْنُ مَهْدِيٍّ قَالَا حَدَّثَنَا شُعْبَةُ مِثْلَهُ وَإِذَا كَرِهَ شَيْئًا عُرِفَ فِي وَجْهِهِ الشرح: حديث أبو سعيد أورده من طريقين: قوله: (عن عبد الله بن أبي عتبة) بضم المهملة وسكون المثناة بعدها موحدة، وهو مولى أنس، وهذا هو المحفوظ عن قتادة. وقد رواه الطبراني من وجه آخر عن شعبة عن قتادة فقال " عن أبي السوار العدوي عن عمران بن حصين به". قوله: (أشد حياء من العذراء) أي البكر، وقوله "في خدرها " بكسر المعجمة أي في سترها، وهو من باب التتميم، لأن العذراء في الخلوة يشتد حياؤها أكثر مما تكون خارجة عنه، لكون الخلوة مظنة وقوع الفعل بها، فالظاهر أن المراد تقييده بما إذا دخل عليها في خدرها لا حيث تكون منفردة فيه، ومحل وجود الحياء منه صلى الله عليه وسلم في غير حدود الله، ولهذا قال للذي اعترف بالزنا أنكتها لا يكني كما سيأتي بيانه في الحدود. وأخرج البزار هذا الحديث من حديث أنس وزاد في آخره " وكان يقول الحياء خير كله " وأخرج من حديث ابن عباس قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل من وراء الحجرات، وما رأى أحد عورته قط، وإسناده حسن. قوله: (حدثنا محمد بن بشار حدثنا يحيى وابن مهدي قالا حدثنا شعبة مثله) يعني سندا ومتنا، وقد أخرجه الإسماعيلي من رواية أبي موسى محمد بن المثنى عن عبد الرحمن بن مهدي بسنده وقال فيه " سمعت عبد الله بن أبي عتبة يقول سمعت أبا سعيد الخدري يقول " وأخرجه ابن حبان من طريق أحمد بن سنان القطان قال " قلت لعبد الرحمن بن مهدي: يا أبا سعيد أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها؟ قال: نعم عن مثل هذا فسل يا شعبة " فذكره بتمامه. قوله: (وإذا كره شيئا عرف في وجهه) أي أن ابن بشار زاد هذا على رواية مسدد، وهذا يحتمل أن يكون في رواية عبد الرحمن بن مهدي وحده، وأن يكون في رواية يحيى أيضا ولم يقع لمسدد والأول المعتمد فقد أخرجه الإسماعيلي من رواية المقدمي وأبي خيثمة وابن خلاد عن يحيى بن سعيد وليس فيه الزيادة، وأخرجه من رواية أبي موسى عن عبد الرحمن بن مهدي فذكرها، وكذا أخرجه مسلم عن زهير بن حرب وأبي موسى محمد بن المثنى وأحمد بن سنان القطان كلهم عن ابن مهدي، وأخرجه من حديث معاذ والإسماعيلي من حديث علي بن الجعد كلاهما عن شعبة كذلك، وأخرجه ابن حبان من طريق عبد الله بن المبارك عن شعبة كذلك، وقوله "عرفناه في وجهه، إشارة إلى تصحيح ما تقدم من أنه لم يكن يواجه أحدا بما يكرهه بل يتغير وجهه فيفهم أصحابه كراهيته لذلك. الحديث: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مَا عَابَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا قَطُّ إِنْ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ وَإِلَّا تَرَكَهُ الشرح: حديث أبي هريرة: قوله: (عن أبي حازم) هو الأشجعي واسمه سلمان، وليس هو أبا حازم سلمة بن دينار صاحب سهل بن سعد. قوله: (ما عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما قط) في رواية غندر عن شعبة عند الإسماعيلي " ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عاب طعاما قط " وهو محمول على الطعام المباح ما سيأتي تقرير ذلك في كتاب الأطعمة إن شاء الله تعالى. الحديث: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ مُضَرَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ ابْنِ بُحَيْنَةَ الْأَسْدِيِّ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَجَدَ فَرَّجَ بَيْنَ يَدَيْهِ حَتَّى نَرَى إِبْطَيْهِ قَالَ وَقَالَ ابْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا بَكْرٌ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ الشرح: حديث عبد الله بن مالك ابن بحينة، هو بتنوين مالك وإعراب ابن بحينة إعراب بن مالك لأن مالكا أبوه وبحينة أمه. قوله: (الأسدي) هو بسكون المهملة، ويقال فيه الأزدي بسكون الزاي، وهذا مشهور في هذه النسبة يقال بالزاي وبالسين، وغفل الداودي فقرأه فتح السين ثم أنكره، وقد تقدم هذا الحديث في كتاب الصلاة، وكذا قوله: " قال ابن بكير " أي يحيى بن عبد الله بن بكير (حدثنا بكر) أي ابن مضر بالإسناد المذكور. قوله: (بياض إبطيه) أي أن يحيى، زاد لفظ " بياض " لأن في رواية قتيبة " حتى يرى إبطيه " واختلف في المراد بوصف إبطيه بالبياض فقيل: لم يكن تحتهما شعر فكانا كلون جسده، ثم قيل لم يكن تحت إبطيه شعر البتة، وقيل كان لدوام تعهده له لا يبقى فيه شعر، ووقع عند مسلم في حديث " حتى رأينا عفرة إبطيه " ولا تنافي بينهما لأن الأعفر ما بياضه ليس بالناصع، وهذا شأن المغابن يكون لونها في البياض دون لون بقية الجسد. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ دُعَائِهِ إِلَّا فِي الِاسْتِسْقَاءِ فَإِنَّهُ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إِبْطَيْهِ وَقَالَ أَبُو مُوسَى دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَرَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ الشرح: حديث أنس في رفع اليدين في الاستسقاء، تقدم في موضعه مشروحا، والغرض منه ذكر إبطيه، والمراد بالحصر فيه الرفع على هيئة مخصوصة لا أصل الرفع فإنه ثابت عنه كما في الخبر الذي بعده. الحديث: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَابِقٍ حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ قَالَ سَمِعْتُ عَوْنَ بْنَ أَبِي جُحَيْفَةَ ذَكَرَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ دُفِعْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِالْأَبْطَحِ فِي قُبَّةٍ كَانَ بِالْهَاجِرَةِ خَرَجَ بِلَالٌ فَنَادَى بِالصَّلَاةِ ثُمَّ دَخَلَ فَأَخْرَجَ فَضْلَ وَضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَقَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ يَأْخُذُونَ مِنْهُ ثُمَّ دَخَلَ فَأَخْرَجَ الْعَنَزَةَ وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ سَاقَيْهِ فَرَكَزَ الْعَنَزَةَ ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ الْحِمَارُ وَالْمَرْأَةُ الشرح: حديث أبي موسى، ذكر منه طرفا معلقا، هو طرف من حديث سيأتي موصولا في المناقب في ترجمة أبي عامر الأشعري، وقد علق طرفا منه في الوضوء أيضا. قوله: (حدثنا الحسن بن الصباح) هو البزار الذي أخرج عنه الحديث الذي بعده، وقيل بل هذا هو الزعفراني نسبه إلى جده لأنه الحسن بن محمد بن الصباح. قوله: (سمعت عون بن أبي جحيفة ذكر عن أبيه) في رواية شعبة عن عون " سمعت أبي " كما تقدم في أوائل الصلاة. قوله: (دفعت) بضم أوله أي أنه وصل إليه عن غير قصد، والأبطح هو الذي خارج مكة ينزل فيه الحاج إذا رجع من منى. وقوله (وكان بالهاجرة) استئناف أو حال، وقد تقدم هذا الحديث من وجه آخر في هذا الباب وهو الحديث العاشر، والمراد منه قوله " كأني أنظر إلى وبيص ساقيه " والوبيص بالموحدة والمهملة البريق وزنا ومعنى. الحديث: حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ صَبَّاحٍ الْبَّزَّارُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحَدِّثُ حَدِيثًا لَوْ عَدَّهُ الْعَادُّ لَأَحْصَاهُ وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ أَلَا يُعْجِبُكَ أَبُو فُلَانٍ جَاءَ فَجَلَسَ إِلَى جَانِبِ حُجْرَتِي يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْمِعُنِي ذَلِكَ وَكُنْتُ أُسَبِّحُ فَقَامَ قَبْلَ أَنْ أَقْضِيَ سُبْحَتِي وَلَوْ أَدْرَكْتُهُ لَرَدَدْتُ عَلَيْهِ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَسْرُدُ الْحَدِيثَ كَسَرْدِكُمْ الشرح: حديث عائشة: قوله: (حدثنا الحسن بن الصباح البزار) بتقديم الزاي على الراء، وهو واسطي سكن بغداد، وكان من أئمة الحديث. وسفيان هو ابن عيينة فإن الحسن بن الصباح ما لحق الثوري، والثوري لا يروي عن الزهري إلا بواسطة. قوله: (لو عده العاد لأحصاه) أي لو عد كلماته أو مفرداته أو حروفه لأطاق ذلك وبلغ آخرها، والمراد بذلك المبالغة في الترتيل والتفهيم. هذا الحديث هو الحديث الذي بعده، اختلف الرواة في سياقه بسطا واختصارا. قوله: (وقال الليث حدثني يونس) وصله الذهلي في " الزهريات " عن أبي صالح عن الليث. قوله: (ألا يعجبك) بضم أوله وإسكان ثانيه من الإعجاب وبفتح ثانيه والتشديد من التعجيب. قوله: (أبا فلان) كذا للأكثر، قال عياض: هو منادي بكنيته. قلت وليس كذلك لما سأذكره، وإنما خاطبت عائشة عروة بقولها " ألا يعجبك " وذكرت له المتعجب منه فقالت " أبا فلان " وحق السياق أن تقول أبو فلان بالرفع على أنه فاعل، لكنه جاء هكذا على اللغة القليلة ثم حكت وجه التعجب فقالت " جاء فجلس إلخ " ووقع في رواية الأصيلي وكريمة " أبو فلان " ولا إشكال فيها. وتبين من رواية مسلم وأبي داود أنه هو أبو هريرة، فأخرجه مسلم عن هارون بن معروف وأبو داود عن محمد بن منصور الطوسي كلاهما عن سفيان، لكن قال " هارون عن سفيان عن هشام بن عروة " وقال الطوسي " عن سفيان عن الزهري " وكذا أخرجه الإسماعيلي عن ابن عمر عن سفيان عن هشام عن أبي يعلى وعن أبي معمر عن سفيان عن الزهري، وكذا أخرجه أبو نعيم من طريق القعنبي عن سفيان عن الزهري، فكأن لسفيان فيه شيخين. وفي رواية الجميع أنه أبو هريرة. ووقع في رواية ابن وهب عند الإسماعيلي " ألا يعجبك أبو هريرة، جاء فجلس " ولأحمد ومسلم وأبي داود من هذا الوجه " ألا أعجبك من أبي هريرة " ووقع للقابسي بفتح الهمزة بعدها مثناة مفتوحة فعل ماض من الإتيان، وفلان بالرفع والتنوين وهو تصحيف لأنه تبين من الرواية الأخرى أنه بصيغة الكنية لا بلفظ الاسم المجرد عنها، والعجب أن القابسي أنكر عين روايته. وقال عياض: هي الصواب لولا قوله بعده " جاء". قلت: لأنه يصير تكرارا. قوله: (وكنت أسبح) أي أصلي نافلة، أو على، ظاهره أي أذكر الله، والأول أوجه. قوله: (ولو أدركته لرددت عليه) أي لأنكرت عليه وبينت له أن الترتيل في التحديث أولى من السرد. قوله: (لم يكن يسرد الحديث كسردكم) أي يتابع الحديث استعجالا بعضه إثر بعض لئلا يلتبس على المستمع. زاد الإسماعيلي من رواية بن المبارك عن يونس " إنما كان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلا، فهما تفهمه القلوب " واعتذر عن أبي هريرة بأنه كان واسع الرواية كثير المحفوظ، فكان لا يتمكن من المهل عند إرادة التحديث كما قال بعض البلغاء: أريد أن أقتصر فتتزاحم القوافي علي في. *3* رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشرح: قوله: (باب كان النبي صلى الله عليه وسلم تنام عينه) في رواية الكشميهني " عيناه " (ولا ينام قلبه) . قوله: (رواه سعيد بن ميناء عن جابر) وصله في كتاب الاعتصام مطولا، وسيأتي شرحه هناك إن شاء الله تعالى وأخرجه المصنف في الباب من حديث عائشة في صلاته صلى الله عليه وسلم بالليل وفي آخره " فقلت يا رسول الله تنام قبل أن توتر؟ قال: تنام عيني ولا ينام قلبي " وهذا قد تقدم في صلاة التطوع، وتقدم حديث ابن عباس في ذلك في صلاته صلى الله عليه وسلم بالليل، ثم ذكر طوفا من حديث شريك عن أنس في المعراج، وسيأتي بأتم من هذا في التوحيد. الحديث: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُنَا عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ جَاءَهُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ وَهُوَ نَائِمٌ فِي مَسْجِدِ الْحَرَامِ فَقَالَ أَوَّلُهُمْ أَيُّهُمْ هُوَ فَقَالَ أَوْسَطُهُمْ هُوَ خَيْرُهُمْ وَقَالَ آخِرُهُمْ خُذُوا خَيْرَهُمْ فَكَانَتْ تِلْكَ فَلَمْ يَرَهُمْ حَتَّى جَاءُوا لَيْلَةً أُخْرَى فِيمَا يَرَى قَلْبُهُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَائِمَةٌ عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ وَلَا تَنَامُ قُلُوبُهُمْ فَتَوَلَّاهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الشرح: قوله: (حدثنا إسماعيل) هو ابن أبي أويس. قوله: (حدثنا أخي) هو أبو بكر عبد الحميد، وسليمان هو ابن بلال. قوله: (جاءه ثلاثة نفر) هم ملائكة، ولم أتحقق أسماءهم. قوله: (فقال أولهم أيهم) هو مشعر بأنه كان نائما بين اثنين أو أكثر، وقد قيل إنه كان نائما بين عمه حمزة وابن عمه جعفر بن أبي طالب. قوله: (فكانت تلك) أي القصة أي لم يقع في تلك الليلة غير ما ذكر من الكلام. قوله: (حتى جاءوا إليه ليلة أخرى) أي بعد ذلك، ومن هنا يحصل رفع الإشكال في قوله " قبل أن يوحى إليه " ما سيأتي بيانه في مكانه. قوله: (فيما يرى قلبه والنبي صلى الله عليه وسلم نائمة عيناه ولا ينام قلبه وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم) قد تقدم مثل هذا من قول عبيد بن عمير في أوائل الطهارة، ومثله لا يقال من قبل الرأي، وهو ظاهر في أن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم لكنه بالنسبة للأمة، وزعم القضاعي أنه مما اختص به عن الأنبياء أيضا، وهذان الحديثان يردان عليه، وقد تقدم في التيمم في الكلام على حديث عمران في قصة المرأة صاحبة المزادتين ما يتعلق بكونه صلى الله عليه وسلم كان تنام عيناه ولا ينام قلبه، فليراجع منه من أراد الوقوف عليه.
|